أعزائي البشر

،
قد يبدو غريبًا أن أكتب رسالة مُوجّهة إليكم، أنا أقر بذلك. فالرسائل عادة ما تكون مُوجّهة لفرد أو لمجموعة محدودة من الناس. ومن غير المعتاد أن يكتب أحد شيئًا موجهًا للبشرية جمعاء. فليس لدى كاتب الرسالة حتى عنوان مُراسلة بريدية، وأشك في أنني سأتلقى الكثير من المراسلات. ومع ذلك، أعتقد بأن الوقت قد حان لأكتب.

أدرك جيدًا أن رسالتي لا يمكن أن تصل إلى كل البشر – فليس لسبب أقل من أن البشرية لا تتألف فقط من كل الأشخاص الذين هم على قيد الحياة حاليًا، ولكن أيضًا من كل من عاش في أي وقت مضى. وهذا يُقدّر بنحو 107 مليارات شخص. ثم إن هناك كل هؤلاء الذين لم يُولدوا بعد – آمل أنه سيكون هناك الكثير منهم. سوف أعود للحدث عن ذلك لاحقًا، ولكن قبل أن أتحدث عن المستقبل، أود أن أبدأ بإلقاء نظرة على الماضي.

لقد أتينا عبر طريق طويل ومُمتد، أعزائي البشر.

فلم يخض أي حيوان غمار هذا الطريق مثلما فعلنا نحن البشر. بدأ الأمر منذ حوالي 200 ألف سنة. في ذلك الوقت، لم تكن هناك جائزة نوبل يتم منحها للشخص الذي طرح الفكرة الرائعة باستخدام جلود الحيوانات للوقاية من البرد والشعور بالدفء، أو لمن قدم الفكرة بشأن كيفية السيطرة على الحرائق، أو لمن اخترع الرمح أو الحذاء. كلها كانت اختراعات استثنائية وفريدة وذكية للغاية، لم تمكن الإنسان فقط من البقاء على قيد الحياة في بيئته الطبيعية الأصلية الجامحة بل سمحت له أيضًا بتشكيلها وفقًا لرغباته، وكذلك مكنّته من السيطرة عليها.

لم يتحلى البشر دائمًا بمثل هذه القوة. فلفترة طويلة ظلّ الإنسان على هامش الحياة، مجرد جنس موجود في مكان ما في منتصف السلسلة الغذائية، وغير مُلاحَظ وجوده، ولم تكن قدراته للسيطرة على البيئة المحيطة به بأكبر من قدرات الغوريلات أو الفراشات أو قناديل البحر للسيطرة على البيئات المحيطة بها. ويعود الفضل لبقاء الإنسان على قيد الحياة بشكل أساسي لقيامه بجمع النباتات، واصطياد الحشرات، ومطاردة الحيوانات الصغيرة، وأكل الجثث التي تُخلِّفها الحيوانات المُفترسة التي كانت أقوى من الإنسان بكثير، وكان الإنسان يعيش في خوف دائم منها.

هل تعلم أن الاختلافات الجينية الموجودة بين مجموعات الشمبانزي أكثر بكثير من الاختلافات الجينية الموجودة بين أكثر من 7 مليارات شخص من البشر الذين يعيشون على كوكب الأرض اليوم؟ يعتقد الباحثون أن هذا يرجع إلى أن البشر اندثروا جميعًا في يوم ما وأن سكان العالم اليوم ينحدرون جميعًا من عدد قليل من الناجين. هذه الحقيقة تفرض علينا أن نكون متواضعين. في الواقع، إنها لمعجزة أننا موجودون هنا.

من الناحية الجسدية، يُعد البشر مخلوقات هشة جدًا مقارنة بالعديد من الحيوانات، على نحو مثير للدهشة.
تُولد بعض الحيوانات عارية وهي تصرخ، وتتسم بالعجز نوعًا ما، ومن ثمّ تكون فريسة سهلة لأي حيوان مفترس قد يمر بجورها، ومع ذلك، فإن الحمل حديث الولادة يستطيع المشي في غضون ساعات قليلة، في حين أن الطفل البشري يحتاج إلى نحو عام كامل لمجرد الوقوف على قدميه. وهناك حيوانات أخرى لديها حواس وأعضاء وردود فعل معينة تُمكِّنها من البقاء على قيد الحياة في بيئات معينة. ولكن الإنسان لم يُولد ليعيش في بيئة بعينها على وجه الخصوص. بعد كل مظاهر الضعف الواضحة هذه، أظهر الإنسان أنه قوي لينتقل من سهول الرعي الخضراء إلى القطب الشمالي المتجمد، ووصل إلى قاع المحيط، وصعد إلى سطح القمر! هذا إنجاز فريد من نوعه!

حتى إن بعض الناس يعتقدون أن الإنسان يجب أن يتخطى نطاق الأرض وينطلق ليُعمِّر الكون. هي فكرة جيدة في حد ذاتها، طالما أنها ستحمي البشر من الاندثار في يوم من الأيام إذا ما ضرب نيزك هائل كوكب الأرض. فسيكون هذا عار إذا ما اندثر البشر. ولأكون صادقًا، هذا رغم اعتقادي بأنه من المبكر بعض الشيء بالنسبة للإنسان أن يسعى للجوء إلى عوالم أخرى. فدعونا أولا نحاول إيجاد حلولٍ لبعض القضايا على كوكبنا الأم. لأنه قد يُقال إن وجودكم على كوكب الأرض قد تسبّب في حدوث مشكلات مثل: ظاهرة الاحتباس الحراري، وإزالة الغابات، والبلاستيك الذي يتم التخلص منه في المحيطات، والإشعاعات المؤينة، وتراجع التنوع البيولوجي. كل هذا يكفي لجعل الشخص مكتئبًا. يبدو الأمر أحيانًا وكأننا نسبب أضرارًا أكثر من القيام بفعل أشياء جيدة!

عادة ما أقابل أناس يعتقدون أن الكوكب سيكون أفضل حالاً، إذا لم نكن نحن البشر موجودين هنا على الإطلاق. آمل ألا أزعجك حين أقول لك ذلك، يا عزيزي الإنسان، ولكن أجد نفسي مضطرًا لأن أقول لك بأن هناك من بيننا من لا يثقون بك كإنسان، وينظرون إليك نظرة دونية وبازدراء، أو ببساطة هم يبغضوك ويمقتوك لأنهم يعتقدون بأنك كإنسان تدمر هذا الكوكب. أسارع إلى القول بأنني لست واحدًا من هؤلاء. لقد كنت دائمًا أواجه صعوبة في فهم مثل هذا البغض للجنس البشري، لأنه في نهاية المطاف يُعد شكلاً من أشكال كراهية الذات.

من أين يأتي هذا الانعدام للثقة في الجنس البشري؟ بعد المزيد من البحث والتمعن، اكتشفت أن المصابين بهذا الداء لديهم صورة معينة عن الجنس البشري وهي من وجهة نظري غير صحيحة بالمرة، فهم ينظرون إلى الجنس البشري كجنس مُضاد للطبيعة ولا ينتمي حقًا إلى هذه الطبيعة الرومانسية الجميلة المنسجمة والمتناغمة. أعتقد أن هذا إجحاف وتحامل ساذج لن يساعدنا على التحرك إلى الأمام، ويجب أن نتخلص منه في أقرب وقت ممكن. ولفهم هذه الفكرة، نحن بحاجة إلى أن نبدأ من حيث كانت البداية.

جاءت الأرض إلى حيز الوجود قبل أكثر من 4.5 مليار سنة. في البداية لم تكن أكثر من قطعة صخر وحيدة تسبح في الفضاء، وقد استغرق الأمر أكثر من مليار سنة قبل أن يبدأ المحيط الحيوي للكوكب في التشكل. بعد ذلك، استغرق الأمر حوالي 2 مليار سنة أخرى لكي تتطور النباتات متعددة الخلايا. وبعد مليار سنة أخرى، خلال الانفجار الكمبري، ظهر نوع جديد تمامًا من أشكال الحياة على كوكب الأرض وهو: الحيوانات.

ظهرت أول حيوانات على الساحة قبل 500 مليون سنة. لا نعرف بالضبط ماذا كان شعور النباتات، التي كانت موجودة بالفعل منذ مليار سنة، تجاه ظهور الحيوانات. كما تعلمون، النباتات ترغب في أن تُتْرَك في سلام، فهي لا تتحرك كثيرًا وتستمد غذاءها من الشمس والتربة.
والآن، أنا لا أعرف رأي النباتات، لأنه لا يمكنني التحدث إليها، ولكنه لا يبدو مستحيلاً تصور أن النباتات وجدت ذلك الأمر مُقْلِقًا وغير مُريح بأن يضطروا لتحمل الحيوانات من حولهم. ربما حتى إنهم رأوا أن الحيوانات كانت لا تتسم بالأخلاق الحميدة، ليس فقط لأنها كانت بلا جذور في الأساس وعاشت في وتيرة سريعة على نحو لا يمكن تصوره، ولكن أكثر من ذلك لأنها فعلت شيئًا كان جديدًا تمامًا في تلك الأيام، شيئًا بغيضًا لم يُسْمَع عنه من قبل وهو أن: الحيوانات أكلت النباتات.

مع أخذ كل الأمور في الاعتبار، فإن وصول الحيوانات لم يكن ليحمل معه المزيد من المرح للنباتات. ورغم ذلك فالتطور متواصل. وحينما كانت الأرض مسكونة فقط بواسطة النباتات كان ذلك جيدًا بحسب ما سارت إليه الأمور، وفي الوقت نفسه كان ذلك مُملا بعض الشيء أيضًا، أو على الأقل كان أقل إثارة من أرض توجد بها حيوانات بجانب النباتات (وهنا أعفيك من وصف مشابه بشأن ما كانت عليه الأمور عندما لم تكن هناك نباتات على الأرض وكانت هناك صخور فقط، وهو الأمر الذي كان مُملا بشكل أكبر)

والآن، لنعود إلى دور البشر. كما أن ظهور الحيوانات صدم وأزعج عالم النباتات، فإن وصولك كإنسان تسبب أيضًا في خلق متاعب بحق. تذكر، لقد وصلت لتوك إلى هنا. الحيوانات كانت موجودة هناك قبل وجود البشر بأكثر من 2000 مرة، والحياة النباتية البسيطة كانت موجودة هنا قبل وجود البشر بأكثر من 7000 مرة. ولكنني لا أقول ذلك لإجبارك على أن تنظر لنفسك بتواضع، لأنني أعتقد بأنك مدهش ومُذهل.

على الرغم من أنك في الأساس نوع من الحيوانات، فإن هناك شيئًا فريدًا من نوعه تمامًا بخصوصك، وهو شيء أقل ارتباطًا بتكوينك الجسدي – الذي هو كما أشرت من قبل أقل مدعاة للإعجاب به – وهو شيء أكثر ارتباطًا بميلك المُتأصل لاستخدام التكنولوجيا. في حين أن بعض الحيوانات الكادحة ينجح في تحويل شكل المنطقة المحيطة به – فكر مثلاً في بيوت القنادس وتلال النمل الأبيض – لكن أحد منهم لم يفعل ذلك على نحو جذري مثلما تفعل أنت كإنسان. أنا أستخدم كلمة “التكنولوجيا” في أوسع معانيها: فأقصد ب”التكنولوجيا” كل طرق التفكير الإنساني التي لها تأثير على العالم من حولنا – الملابس، والأدوات، والسيارات، وكذلك أيضًا الطرق، والمدن، والحروف الأبجدية، والشبكات الرقمية، وحتى الشركات متعددة الجنسيات والأنظمة المالية.

منذ أن جئت إلى الوجود كإنسان، كنت تبني النظم التكنولوجية لتحرر نفسك من قوى الطبيعة شديدة البأس. ولقد بدأ الأمر بصنع سقف فوق رأسك كان يحميك من العواصف، ولقد عملت طوال الوقت على تطوير الأدوية لعلاج الأمراض الفتاكة. أنت تكنولوجي بطبيعتك. ولكنك مثل السمكة التي لا تعرف أنها تسبح في الماء، أنت تميل إلى التقليل من تشابك حياتك الوثيق مع التكنولوجيا وكم ما أنجزته لك. على سبيل المثال، انظر إلى متوسط العمر المتوقع. في بداية وجود الإنسان، لم يكن يُتوقّع أن يعيش الإنسان العادي كثيرًا بعد سن ال 30. ويرجع ذلك جزئيًا إلى ارتفاع معدلات وفيات الأطفال، فينبغي أن تعد نفسك محظوظًا إذا عشت لفترة عمرية أطول، وتوافر لك الوقت للتناسل وإنجاب الأطفال. من منظور الطبيعة الأم، هذا أمر طبيعي تمامًا. إذا رأيت زوجًا من البط يسبح بجانبه أكثر من عشرة من فراخ البط الصغيرة في فصل الربيع، فيجب ألا تُفاجئ إذا لم يتبق من الفراخ الصغيرة بحلول نهاية الصيف سوى اثنتين فقط، أو ربما ثلاثة لو حالفهم الحظ.

تُعد التكنولوجيا جزءًا منا، وبنفس الطريقة فإن النحل والزهور تطوروا ليكونوا مترابطين ومعتمدين على بعضهم. فكما أن النحل يجمع الرحيق، فإنه يساعد الزهور على التكاثر من خلال نشر حبوب اللقاح. البشر يعتمدون على التكنولوجيا، والعكس أيضًا. فالتكنولوجيا بحاجة لنا لكي تنتشر ويُعاد انتاجها ونسخها. يا له من إسهام كبير حققته في هذا المضمار أيها الإنسان! لقد أصبحت التكنولوجيا مُنتشرة في كل مكان على كوكبنا، ولقد خلقت بيئات جديدة ووضعيات جديدة تُغيِّر جميع أشكال الحياة على كوكب الأرض. المحيط التكنولوجي والبيئي للتكنولوجيات التفاعلية الذي تطور بعد صولك كإنسان قد تطور ليصبح على رأس المحيط الحيوي المتواجد من قبل. تأثيره على شكل الحياة على كوكب الأرض لا يمكن الاستهانة به ويُعادل، بل وربما يفوق، ظهور الحيوانات قبل 500 مليون سنة.

من منظور التطور، يُعد كل هذا عملاً اعتياديًا. فالطبيعة تبني دائمًا على المستويات القائمة بالفعل من التعقيد: فعلم الأحياء يبني على قواعد علم الكيمياء، والإدراك يبني على قواعد علم الأحياء، والحساب يبني على الإدراك. ولكن من وجهة نظرك أنت، إنه أمر استثنائي. لا أريد أن أفكر في نوع آخر أثار وجوده مرحلة تطورية جديدة تمامًا، وتجدني أهرب من الإشارة إلى تطور مبني على مركبات الحمض النووي (DNA) والجينات والكربون عبر مليارات السنين. فكما أن الحمض النووي تطور من الحمض النووي الرايبوزي، فقد أدت أفعالك، في قفزة ناجحة، إلى تطور غير وراثي في مواد جديدة مثل رقائق السليكون. على الرغم من أن هذا لم يكن عملاً واعيًا، فإن النتائج ليست بالقليلة. لقد حوّل وجودك وجه الأرض على نحو جذري، وبصورة سوف يظل معها هذا التأثير واضحًا وملموسًا لملايين السنين القادمة. هذا هو ما صنعت كإنسان، ولكن حتى الآن، يبدو أنك قليلاً ما تُدرك ذلك، والأقل من ذلك أنك لم تكن قادرًا على اتخاذ موقف واضح تجاهه.

أنا أفهم الآن أن هذا أبعد من أن يكون مجرد مهمة بسيطة، فيكفي أن الجنس البشري ليس أنت وحدك كإنسان تفكر بشكل منفرد ولكنه خليط يعج بمليارات الأفراد،كل علاقة تطور مشتركة – سواء كان ذلك بين النحل والزهور أو بين البشر والتكنولوجيا – تحمل في طياتها مخاطرًا بأن تصبح علاقة طفيلية. كل منهم له أفكاره واحتياجاته ورغباته الخاصة، والذين هم ليسوا مُعدين بشكل بيولوجي للتفكير بمستوى واحد أممي واسع النطاق، ومع ذلك، فإنني أرى أنها القضية الأكثر إلحاحًا في الوقت الراهن. فنحن كبشر نقف في مفترق طرق. ولهذا السبب أكتب لكم رسالتي هذه.

فيما يتعلق بالمستقبل، أرى مسارين محتملين على الطريق قد تتبعهم كإنسان في ظل علاقة تطور مشتركة مع التكنولوجيا: المسار الحلم والمسار الكابوس. ولنبدأ بالحديث عن المسار الكابوس. كل علاقة تطور مشتركة – سواء كان ذلك بين النحل والزهور أو بين البشر والتكنولوجيا – تحمل في طياتها مخاطرًا بأن تصبح علاقة طفيلية. العلاقات الطفيلية، على النقيض من العلاقات التكافلية، تفتقر إلى روح التبادل ومبدأ المعاملة بالمثل. كل من دودة العَلَق والدودة الشريطية وطائر الوقواق لا يعطون شيئًا في المقابل للمضيف الوسيط الذي يستضيفهم، فهم يأخذون فقط. هل التوتر الذي نشعر به تجاه التكنولوجيا يشبه إلى حد ما هذه الأمثلة؟ على الرغم من حقيقة أننا نستخدم التكنولوجيا منذ زمن بعيد، لأنها تخدمنا وتزيد من قدراتنا، إلا أن البشر يواجهون اليوم خطر أن ينتهي بهم الأمر بأن يتحولوا لخدم للتكنولوجيا، وبأن يصبحوا مجرد وسيلة بدلا من أن يكونوا هم الغاية، وبأن يصبحوا مجرد ضيوف على التكنولوجيا. ويمكن أن نضرب مثلاً على ذلك ما يحدث في مجال الصناعات الدوائية. مما لا شك فيه إن الدواء تكنولوجيا مُنقذة للحياة، ولكن عندما تحاول شركات الأدوية زيادة معدلات النمو الخاصة بها من خلال إقناع كل شخص ينحرف عن المتوسط الإحصائي بأي طريقة بأن لديه اضطراب ويحتاج إلى الدواء المناسب، فعندئذ علينا أن نتساءل عما إذا كانوا يعملون حقًا للإنسانية أم لمجرد تلبية احتياجات الصناعة وحملة الأسهم في الشركات.

أين هو بالضبط الحد بين التكنولوجيات التي تُسهِّل حياتنا كبشر وتلك التي تحاصرنا وتحرمنا من الإمكانات الفطرية التي نتمتع بها؟ الشبح المُرعب هو أن تتحول أنت، كإنسان، في نهاية المطاف إلى لا شيء أكثر من عضو تناسلي يحتاج إليه الكائن التكنولوجي ذو الحجم الضخم لكي يتكاثر وينتشر. أشكال حياة مغلفة ضمن أشكال أكبر منها يمكن العثور عليها في مكان ما في الطبيعة: على سبيل المثال، فكِّر في الفلورا المعوية التي تؤدي العديد من المهام المفيدة داخل أجسامنا. هل سنصبح في القريب العاجل مجرد ميكروبات في بطن الوحش التكنولوجي ليس أكثر؟ عند هذه النقطة، فإن الجنس البشري لن يصبح هو الغاية وإنما سيصبح مجرد وسيلة. وهذا ليس بشيء محبب بالنسبة لي، لأنني شخص، وأنا أحد أعضاء فريق البشرية.

والآن فلننتقل إلى المسار الحلم.

الحلم هو أن تستيقظ وتدرك أن كونك إنسان ليس نقطة نهاية، ولكنها عملية في حد ذاتها. وإن التكنولوجيا لا تُغيِّر فقط بيئتنا، فهي في نهاية المطاف تغيرنا نحن أنفسنا. التغيرات القادمة سوف تسمح لك أن تكون أكثر إنسانية من أي وقت مضى. ماذا لو استخدمنا التكنولوجيا لزيادة ودعم أفضل الصفات الإنسانية التي نتمتع بها كبشر، وكذلك لدعم أنفسنا في مواجهة نقاط ضعفنا؟

ويمكننا أن نطلق على هذا النوع من التكنولوجيا “التكنولوجيا الإنسانية”، لعدم وجود مصطلح أفضل من ذلك. إن التكنولوجيا الإنسانية سوف تأخذ احتياجات الإنسان كنقطة انطلاق تنطلق منها. فيمكنها أن تُظهر نقاط قوتنا بدلا من أن تجعل وجودنا غير ضروري. فمن شأنها أن توسع حواسنا بدلا من أن تحد من دورها. وأن تكون متفهمة لغرائزنا ومتوائمة معها. وحريّ بها أن نشعر بكونها طبيعية. التكنولوجيا الإنسانية لن تخدم الأفراد فقط، ولكن أولاً وقبل كل شيء حريّ بها أن تخدم الإنسانية جمعاء. وأخيرًا وليس آخرًا، حريّ بها أن تحقق الأحلام التي لدينا كبشر عن أنفسنا.

وإذن، ما هو الذي تحلم به أنت؟ التحليق في السماء مثل الطيور؟ العيش على سطح القمر؟ السباحة مثل الدلافين؟ التواصل عن طريق السونار؟ التخاطر مع من تحبهم؟ المساواة بين الأجناس والأعراق؟ الإحساس بمشاعر الآخرين، كما هو الحال في الحاسة السادسة؟ منزل يكبر تلقائيًا بالتوازي مع نمو عائلتك؟ هل تريد العيش لفترة أطول؟ ربما تريد أن تعيش للأبد.

اسمع، أيها الإنسان: لقد كنت ذات يوم كائن ضئيل القدر نسبيًا، ولكن أيام طفولتك قد ولّت. فبفضل إبداعك وقدرتك على الابتكار أخرجت نفسك لتترعرع بعيدًا عن وحل سهول الرعي. لقد أصبحت عاملا مُحفِّزًا للتطور، وأنت تُغِّير وجه الأرض. هذه العملية ليست مُكتملة. فأنت تُعد بمثابة حلقة مفصلية بين المحيط الحيوي الذي جئت منه والمحيط التكنولوجي الذي نشأ بعد وصولك. سلوكياتك لا تؤثر فقط في مستقبلك وحدك، بل في مستقبل الكوكب بأسره وفي مستقبل جميع الأنواع الأخرى التي تعيش عليه. وهذه ليست مسؤولية صغيرة.

إذا كنت تعتقد بأنك غير جاهز لتحمل هذه المسؤولية، فكان ينبغي عليك أن تظل في كهفك. ولكن هذا ليس نمط حياتك الذي جُبِلت عليه. فأنت كنت تكنولوجيًا منذ يوم ولادتك. الرغبة في العودة إلى الطبيعة غير مفهومة ومستحيل حدوثها في الوقت نفسه. وهي ليست فقط نوعًا من الجبن في مواجهة المجهول، ولكنها تُعد نوعًا من إنكار إنسانيتك. لا يمكننا تخيل مستقبل الإنسانية من دون التفكير في مستقبل التكنولوجيا. يجب أن تتحرك إلى الأمام وتمضي قُدُمًا – حتى لو كنت وصلت للتو إلى هنا. أنت مُراهق، ولكن حان الوقت لتكبر. التكنولوجيا هي الصورة الذاتية للإنسانية. فهي تجسيد لبراعة الإنسان في العالم المادي. دعنا نجعل منها عملاً فنيًا يمكن أن نفخر به؟ دعنا نستخدم التكنولوجيا لبناء عالم أكثر طبيعية، ولنرسم الطريق إلى مستقبل لا يعمل فقط من أجل الإنسانية ولكن من أجل جميع الأنواع الأخرى ولهذا الكوكب، وفي نهاية المطاف للكون بأسره.

وفي الختام، أود أن أطلب منك أن تفعل شيئًا. أود أن أدعو كل واحد منكم – سواء على قيد الحياة أو لم يُولد بعد، سواء على الأرض أو في أي مكان آخر – إلى أن يطرح سؤلاً بسيطًا على نفسه بشأن كل تطور تكنولوجي يظهر في حياته: هل سيُزيد هذا التطور التكنولوجي من إنسانيتي؟

والجواب عادة لن يكون إما أبيضًا أو أسودًا، وإما نعم أو لا. فعادة ما سيكون الجواب على سبيل المثال بـ 60% نعم و40% لا. وسوف تختلف أحيانًا مع أشخاص آخرين، وسيتوجب عليكم أن تناقشوا الأمر قبل أن تتمكنوا من التوصل إلى اتفاق. ولكن هذا أمر جيد. فإذا اختار كل واحد منا دائمًا نوع التكنولوجيا الذي يدعم إنسانيته، فأنا أعرف بأنكم ستكونون على ما يُرام. كيف ذلك؟ يبقى أن نرى، فهذا لم يتضح بعد. لا أحد يعرف كيف سيكون البشر بعد مليون عام، أو حتى ما إذا كان سيكون هناك بشر، وإذا كان هناك بشر، ما إذا كان يمكننا التعرف عليهم كبشر. هل سنقبل زرع البشر؟ إعادة برمجة الحمض النووي الخاص بنا؟ مضاعفة حجم أدمغتنا؟ التواصل التخاطري؟ أن تنبت لنا أجنحة؟ لا أعرف ولا يمكنني أن أعرف. لكن أملي هو أن يظل هناك شيئًا مثل الإنسانية عبر ملايين السنين.لأنه طالما أن هناك إنسانية، سيكون هناك بشر.

من صميم إنسانيتي المتواضعة وغير المُتسِّمة بالكمال، أتمنى لكم السعادة والحب ورحلة طويلة ومثيرة في الحياة. ومع ترقب أن يُولد من خلالكم من الآن فصاعدًا المزيد من المليارات من البشر،
أتمنى لكم كل الخير والتوفيق،

Koert van Mensvoort،

مُلاحظة لكل فرد قد يقرأ هذا المقال: بعد قراءة هذه الرسالة، يُرجى أن تُمررها لإخوتك في الإنسانية ليقرأوها. وإذا أردت فعل المزيد، فيمكنك أن تنسخها وتُترجمها وتعيد طباعتها، وتُوَزِّعها. الإنسانية هي كل واحد منا.